خالد بن سالم الغساني
وجهت ميلانيا ترامب زوجة الرئيس الأمريكي رسالة شخصية إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تحثه على حماية “براءة الأطفال” في أوكرانيا، واصفة إياهم بأنهم يحملون “أحلاماً هادئة مشتركة في قلوبهم” تتطلب الحماية من ويلات الحرب، وطالبته بـ”استعادة ضحكة الأطفال البريئة بضربة قلم واحدة”.
وقد سُلمت الرسالة بشكل مباشر عبر الرئيس دونالد ترامب خلال قمة ألاسكا في 15 أغسطس الماضي 2025م، واصفاً إياها بـ”الرسالة الجميلة” التي تعبر عن حب ميلانيا للأطفال وحزنها على معاناتهم .
هذه الرسالة التي قُدمت كتعبير إنساني، من خلال وصف الرئيس الإمريكي لها، وتسويق وسائل الاعلام الأمريكية الموالية لها باعتبارها خطوة ضرورية في سياق تجنيب اطفال أوكرانيا وبراءتهم ويلات الحروب، تكشف عن التناقض الصارخ في المعايير الغربية، حيث التعاطف الانتقائي الذي يُعبِّر عن ويخدم الأجندات السياسية والتحالفات والمصالح الاستعمارية، بينما يتجاهل بشكل واضح وعن قصد واضح، المآسي الإنسانية الأكثر فداحة وألماً وبشاعةً بحق الأطفال في فلسطين المحتلة .
وبالعودة الى تبيان مارصدته التقارير الرسمية، يتضح الآتي :
اندلعت الحرب في أوكرانيا منذ فبراير 2022م، وسجلت تقارير الأمم المتحدة مقتل حوالي 2000 طفل، مع زيادة بنسبة 40% في الإصابات خلال النصف الأول من عام 2024م، وتأثير النزاع على 1.5 مليون طفل في المناطق الحدودية.
هذه الأرقام مأساوية بلا شك، لكنها تتضاءل أمام الكارثة التي تُغمض ميلانيا عينيها عنها وتغمض معها عيون الغرب الإستعماري، في الأراضي العربية المحتلة، حيث تمارس سلطات الكيان الإسرائيلي، أبشع أنواع قتل الأطفال، وقد أفادت تقارير الأمم المتحدة بمقتل أكثر من 14,000 طفل في غزة لوحدها منذ أكتوبر 2023م، وإصابة 50,000 آخرين، مع نسبة 70% من الضحايا من النساء والأطفال، وسط قصف مكثف وتجويع ممنهج، وإستمرار إحكام إغلاق معابر الإغاثة.
هذه الجرائم التي تُوثق يومياً عبر الكاميرات والتقارير الدولية، تُنفذها بدمٍ بارد “آلة حرب العصابات الصهيونية”، التي تمارسها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وبدعم لامحدود من الولايات المتحدة الامريكية التي تزود إسرائيل سنوياً بمليارات الدولارات من الأسلحة والمساعدات العسكرية، متجاهلة التقارير التي تندد بـ”الإبادة الجماعية” و”الانتهاكات المنهجية لحقوق الطفل”.
هنا تتجلى بوضوح إزدواجية المعايير الغربية، فبينما تنصب ميلانيا نفسها كـ”إنسانة محبة للأطفال” من خلال رسالتها إلى بوتين، فإن صمتها تجاه مقتل أكثر من 45,000 فلسطيني، معظمهم أطفال ونساء، يكشف عن تحيز وإصطفاف وتمييز عميق؛ الأمر الذي يجعلنا نتساءل بصوت عالٍ ، لماذا لم ترسل ميلانيا ترامب رسالة إلى بنيامين نتنياهو تطالبه بوقف القصف الذي يستهدف الأطفال والمدنيين؟!! ولماذا لم تهتز شعرة واحدة من ماتبقى من شعر الرئيس الامريكي، زوج ميلانيا وهو يجتهد لتوصيف رسالة الخرفة ميلانيا وخوفها على الأطفال في أوكرانيا، إزاء مايشاهده من جرائم بحق أطفال فلسطين ؟
هذا الصمت يبيّن بشكل ٍ لا شك فيه ماتتبناه المنظومة الغربية التاريخية من تقديس “للضحايا الأوروبيين” بينما تتجاهل “الآخرين” في باقي العالم والشرق الأوسط على وجه الخصوص.
إن الدعم الأمريكي اللامحدود للكيان الإسرائيلي، الذي يشمل تزويده بأسلحة متطورة بما فيها القنابل الذكية والطائرات المقاتلة، يسهم مباشرة في استمرار هذه الجرائم، رغم الإدانات الدولية التي تصف العمليات الإسرائيلية بـ”العقاب الجماعي” و”التجويع المتعمد”.
هذه الازدواجية البغيضة، هي إمتداد للعقلية الاستعمارية التي تقسم العالم إلى “نحن” و”هم”، فالأطفال الأوكرانيون يُنظر إليهم كجزء من “العالم الحر”، والجنس السامي الذي ينبغي ان يحظى بكل سبل الرعاية والإهتمام، وتجنيبهم كل ما يمكن ان يؤذيهم، فيحظون بالتعاطف والدعوات العاطفية، بينما يُعامل الأطفال الفلسطينيون كأرقام في تقارير تُقرأ وتُنسى.
صمت ميلانيا تجاه مايحدث من قتل وتجويع وتشريد لأطفال فلسطين من قبل قطعان وأوباش الاحتلال الاسرائيلي، يثير سخطاً شعبياً واسعاً من قبل العالم الحر، ويبين إزدواجية المعايير الامريكية، والإنتقائية الوقحة التي أصبحت نهجاً في أدبياتها وتعاملاتها.
لذا نتساءل ويتساءل معنا كل إنسان حر وشريف عن سبب عدم مجرد تفكير ميلانيا في إرسال رسالة إلى نتنياهو بشأن آلاف الأطفال القتلى والمحروقين والمجوَّعين والمشرَّدين واليتامى في غزة ؟!!
إنه النفاق الغربي في أبهى صورهِ، الذي يكرسه الدعم الأمريكي الذي لا يتزعزع لإسرائيل، والذي يتجاوز المساعدات العسكرية والمالية إلى الحماية الدبلوماسية في مجلس الأمن، حيث تُعرقل الولايات المتحدة أي قرارات تدين الانتهاكات الإسرائيلية.
إنَّ الإنسانية أيها التاجر الرئيس، وزوجتك عارضة الأزياء اللامبالية، لا تُقسّم، والتعاطف هنا لا ينبغي أن يكون انتقائياً، وإذا كانت ميلانيا حقاً “تحب الأطفال”، كما تدعي ويروّج زوجها لذلك الحب، فلماذا لا يمتد تعاطفها إلى أطفال فلسطين؟ ولماذا تستمر الولايات المتحدة في تمويل القتل بدم بارد؟
إننا نطالب بفضح هذه المعايير المزدوجة والإنتقائية، ونطالب في نفس الوقت وبقوة، الغرب الفاقد بالنسبة لنا لكل مصداقيته، ان يطبق إنسانيته، ان كان لازال يملك شيء منها، بشكل متساوٍ، حيث لافرق بين مايتعرض له طفل وآخر من معاناة في أي مكان في العالم، هكذا تكون الإنسانية وهكذا ينبغي ان تكون معاييرها بعيداً عن حسابات السوق والربح والخسارة.